ولنا في الشعر...حياة (1)




يقول الشاعر أبو القاسم الشابيّ:

ليتَ لي أن أعيشَ في هذه الدُّنـ    
                      ـيا سعيداً بوحدتي وانفرادي
   أصرفُ العمرَ في الجبالِ وفي الغا   
                            باتِ بين الصنوبرِ المَيَّادِ 
أرقبُ الموتَ والحياةَ ،وأُصغي    
                              لحديثِ الآزالِ والآبادِ
  لا أُعنِّي نفسي بأحزانِ شعبي          
                      فهْو حَيٌّ يعيشُ عيشَ الجمادِ
  هذه عيشةٌ تُقدِّسُها نفـ                     
                      ـسي وأدعو لمجدِها وأُنادي

دائماً ما يرى الإنسان سعادته في وجود الناس حوله ،فالإنسان الوحيد تعس..كئيب..لا يشعر لذةً في الحياة...
إذن مالذي جعل الشابي يعتقد العكس ،ويتصور السعادة في الوحدة والإنفراد؟!!
فهو يتمنى أن يقضيَ جلَّ عمره بين أحضان الطبيعة..ربما لشعوره بأنها تفهمه وتحتويه وتتجاوب معه أكثر من البشر المحيطين به ،والذي صورهم بـ (الجماد) في البيت الرابع.
وهنا تتجلّى رموز الطبيعة المُعبرة عن نفسية الشابي:
فـ (الجبال) رمز القوة والجلد والصبر
،و(الغابات) رمز التأمل وحب الإكتشاف لما فيها من استمراية الحياة وحركتها الدائمة لاختلاف كائناتها
،أما (الصنوبر) فهو رمز الجمال والكبرياء
كل ذلك لم يجده الشابي في البشر (الجمادات) أصحاب العقول المغلقة والنفوس الضيقة والحياة المكرورة..كما يراهم..
أما مسألة الموت والحياة فقد وقعت في دائرة التأمل أيضا ،والفعل (أرقب) يُشعرنا  بأن الشابي لا يأبه بالحياة بما فيها من أتراحٍ وأفراح..ولا يهاب الموت ولا متى ولا أين ولا كيف سيأتي..فالمسألة بالنسبة له تأملية يستنبط منها أن الحياة لا تستحق معاناة الإنسان فيها..طالما أن الموت سينهيها بكل الأحوال...
ويؤكد ذلك التجسيم باعتبار الآزال والآباد شخوص تروي له قصة البداية والنهاية بما أن (الأزل) أقصى البداية و(الأبد) أقصى النهاية ،إذن فالدنيا رواية كبرى تتكرر أشخاصها وأحداثها ولكن برؤىً مختلفة..والحكمة واحدة والناس لا تتعظ!!
هذه النزعة الفلسفية لدى الشابي تخرجه من تلك الحياة المادية البليدة التي يحياها الآخرون ،ولأنه مرهف الإحساس..قوي العاطفة..يتأثر بأحزان شعبه ويتعاطف معهم لدرجة تمني الإبتعاد عنهم ليحظى بالراحة النفسية..لكنه يرى في نفس الوقت أنهم يجلبون ذلك لأنفسهم..بسبب جمودهم وصمتهم وانقيادهم لأحزانهم فهم في نظره أحياء يأكلون ويشربون ،ويتناسلون..لكنهم قليلاً ما يفكرون..
وتلك مأساة شعوبنا التي تعرض لها الكثير من أدبائنا ومفكرينا ،فمتى نحيا لنفكِّر؟!!!


ندى
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدهر الجهنمي

ردي على قصيدة (إلهي أبعد الواشين عني) للشاعرة الكبيرة (زاهية بنت البحر)

مُجاراتي لقصيدة (تعالَ) للشاعرة القديرة عطاف سالم..