ولنا في الشعر حياة..3





يقول الإمام الشافعيّ:

ما في الــمُقامِ لـذي عـــــقـلٍ وذي أدبٍ
من راحـــــــة فـدع الأوطـانَ واغتـربِ
ســـــــافر تجـدْ عوضـاً عمـّن تـفارقـُهُ
وانـصبْ فإن لذيذ العيش في النصـبِ
إني رأيـت وقـــوف الــمـاء يفســــدهُ
إن ساح طاب وإن لم يجـرِ لم يـطــبِ
والأُسْدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست
والسهمُ لولا فراقُ القـوس لم يصـبِ
والشمسُ لو وقفت في الفلك دائمـةً
ًلملّها الناسُ من عــجـمٍ ومـن عــــربِ
والـبدرُ لــولا أفــــولٌ منه ما نظرت
إليه في كـــل حــينٍ عــينُ مــرتقــبِ
والــتِّبرُ كالــتربِ ملقـيً فـي أمــاكنِـهِ
والعــودُ في أرضــهِ نـــوعٌ من الحطـبِ
فــإن تــغـــرّب هـذ ا عـزّ مــطلـــبـُهُ
وإن تــغــــرّب ذلـك عــــــــزّ كالـذهـبِ

الغربة ملاذٌ لكل من أراد الهروب..نهرب أحياناً كي نستعيد أنفسنا وكي نذكِّرَ الآخرين بأن كان لنا وجودٌ يوماً ما بينهم..نبتعد كي نترك الفراغ الذي تزداد قيمتنا الحقيقية باتساعه.
يموت أحدهم نكون قد عرفناه ليومٍ أو اثنين..يموت فجأةً فنحزن وربما نبكي ،في الحقيقة نحن لا نبكي الشخص بل نبكي ذلك الفراغ الذي يتركه لأننا لن نراه ثانيةً..لن نسمع ضحكته..لن نمزح معه ولن نستثقل ظلّهُ بعد الآن ! يموت الإنسان أو يغترب ولا يدري أنه بوجوده يصنع وجود أُناسٍ آخرين.
يكون الإغترابُ قهريّاً أو مقصوداً..نقصده أحياناً هرباً من المرايا التي تُحاصرنا والتي نرى فيها حزننا وغضبنا وماضينا وأحلامنا الضائعة..الإمام الشافعيّ أدرك هذه الحقيقة في تلك الأبيات فدعا للسفر وتغيير البيئة كي تتبدل الأحوال للأفضل..سافر وحدك وستجد من يعوّضك عمّن فارقت ،وهنا السؤال: هل يجد الإنسان عوضاً عن أهله وأحبابهِ إذا فارقهم؟!
وضع اللهٌ عزّ وجل في الإنسان القدرة على التكيف مع البيئات المختلفة..ولم نسمع أن أحدهم قد مات لأنه فارق أهله ورحل إلى بلدٍ آخر..صحيحٌ أن آلام الفراق موجعة وقاسية لكن حينما يُجبر الإنسان على الرحيل فإنه يرحل تاركاً وراءهُ كل شيء ،ولذا أتبع الإمامُ الشافعيّ السفر والفراق بالنصَبِ والتعب (وانـصبْ فإن لذيذ العيش في النصـبِ) فمتعة الحياة الحقيقية في المُكابدة والإجتهاد ليس في الراحة والطمأنينة بالقرب من الأهل..ولأن السفر من وجهة نظره طلبٌ للرزق والعلم كما يقول في أبياتٍ أخرى:
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَى
وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ

تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ 
وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ

فإن قيلَ في الأَسفـارِ ذُلٌّ ومِحْنَـةٌ 
وَقَطْعُ الفيافي وارتكـاب الشَّدائِـدِ

فَمَوْتُ الفتـى خيْـرٌ له مِنْ قِيامِـهِ 
بِدَارِ هَـوَانٍ بيـن واشٍ وَحَاسِـدِ 

 يبدو أن الإمام الشافعيّ كان متحيّزاً للسفر والإرتحال بحكم حياته التي امتلأت بالأسفار والتنقلات ،فقد وُلد في غزة على أغلب الأقاويل ثم ارتحل إلى مكة ومنها إلى المدينة المنورة ثم إلى اليمن وبغداد ومصر..وكانت أسفارُهُ إما لطلب العلم أو لنشره. 
 الأبيات في الأعلى رغم مباشرة الفكرة وسلاسة عرضها..إلا أنها تتمتع بعمق التجربة والنظرة الشمولية لفكرة السفر وما يترتب عليها من تحسن أحوال الإنسان..ولكن من هو الإنسان المعنيّ في هذه الأبيات؟ إنه الإنسان ذو العقل والأدب الذي لا يجد الراحة والكرامة في وطنه ،والبيت الأول يُذكِّرنا بالعبارة الإنجيلية (لا كرامة لنبيٍّ في وطنه)..وبرغم مرور تلك القرون العديدة على هذه الأبيات إلا أننا نعيشها حقيقةً واقعة حتى الآن..يُهاجر أحدهم فيعلو شأنه ويُبهر العالم بعلمه ومُنجزاته في حين أنه لو بقي في بلده ربما لن يسمع عنه أحد ولن يُساوي شيئاً يُذكر. وإذا فرضنا أن هذا هو الترتيب الصحيح للأبيات فعلى ما أظن أنه هو الترتيب الأقرب إلى المنطق ،لأن الشافعيّ أدرك كم المفاجأة الصادمة في البيت الأول من دعوته الصريحة (فدعِ الأوطان واغتربِ) وأول ما يتبادر للذهن مفارقة الأهل والأحباب وهذا ليس بالأمر الهيِّن ،والأمر الثاني هو التعب وضياع العمر في الغربة..لنجد الشافعيّ في البيت الثاني يأتي بجملة طلب شرطية (سافرْ تجدْ عِوضاً عمّن تُفارقُهُ) والجملة تحمل تأكيداً وتطميناً عجيباً وكأنّ وجود البديل عن الأهل أمراً واقعاً لا محالة! ثم تخفت حدّة الخطاب في الشطرة الثانية للبيت (وانصبْ فإنّ لذيذ العيش في النصبِ) ليبدأ الشافعيّ بفعل الأمر (وانصب) ثم يغري المُتلقي بلذيذ العيش عن طريق الجملة الخبرية البسيطة (إن لذيذ العيشِ في النصبِ)، ونلاحظ أن الجناس الإشتقاقي بين (وانصب) و (النصبِ) الفعل ومصدره أعطى براحاً واسعاً لتعميق الفكرة وتوكيدها.
الإمام الشافعيّ حشد عدةً من الرموز الكونية في الأبيات ليعطينا دِلالةً واضحة على أن الكون قائم على الحركة الدائمة وقد استغل هذا الناموس الكونيّ لتدعيم فكرته عن السفر بما أنه حركةٌ وتنقلٌ مستمر..فقد ضرب لنا مثلاً بالماء الذي يأسن ويتعفن إذا ظلّ راكداً..أما على اليابسة فقد ضرب المثل بالحيوان (الأُسد) التي لو ظلت في أماكنها دون سعي وحركة لما افترست ولماتت جوعاً ،والنبات (العود) الذي هو في الأصل نوعٌ من خشب الأشجار طيب الرائحة وإن بقي على أصلهِ سيكون حطباً لا قيمة له ،والتراب الذي يتكون في أحشائه حجارة يُستخرجُ منها التِّبر (الذهب) ولو بقيت في أماكنها لما استفاد منها أحد. أما السماء فقد ضرب المثل بأقوى رموزها تأثيراً على حياة البشر (الشمس والقمر)..يقول اللهُ عزّ وجل
 ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
[سورة آل عمران]
وهكذا فإن الإنسان لا يستطيع العيش في نهارٍ دائمٍ أو في ليلٍ دائمٍ..إذن ففي تعاقب الليل والنهار رحمة بالبشر وتخفيفٌ عنهم لما في الطبيعة البشرية من السأم والملل والضيق..حتى أن القمر قدّره اللهُ منازل ويتغير شكلُه في السماء بحسبها فتشتاق العيون لرؤيتهِ بدراً.
 جديرٌ بالقول أن كل الرموز الذي استشهد بها الشافعيّ هي مخلوقات من صنع الله عزّ وجل..لكنه استشهد بأداةٍ وحيدة استخدمها الإنسان كأداة حربٍ وقنص وهي السهم الذي لا يُصيب هدفه إلا إذا تحرّر من قبضة قوسه وأعتقد أن هذه هي الدلالة الأضعف في الأبيات من وجهة نظري ولم تخدم الفكرة كثيراً كالدِّلالات السابقة..أو أن صوتها الدلاليّ خفت لكونها أداة بسيطة من صنع الإنسان في مقابل هذا الكم من الرموز الكونية..لكن أستطيع القول أن الشافعيّ أراد تدعيم فكرته بنظرة شمولية للعالم من حوله في ذلك الزمان البعيد.
 في النهاية أقول أنه كلما اتسع الفراغ الذي تركته خلفك كلما زادت قيمتك ،وهذا ما أراد أن يوصله لنا الإمام الشافعيّ في أبياته.

*هامش
النصب:التعب
التِّبر:الذهب قبل صياغته

ندى
26-6-2015



 

 

 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدهر الجهنمي

ردي على قصيدة (إلهي أبعد الواشين عني) للشاعرة الكبيرة (زاهية بنت البحر)

مُجاراتي لقصيدة (تعالَ) للشاعرة القديرة عطاف سالم..