الخروج من كهف أفلاطون

 


عندما كنت طفلة صغيرة كنت أتصور أن من مسببات السعادة أن أمتلك أكبر عدد من عرائس ( باربي ) ،وأن أصبح إحدى طالبات مدرسة اللغات الراقية التي كانت ترتادها جارتي التي في مثل سني تقريباً وأتحدث مثلها بالفرنسية..وألا أذهب مرة أخرى لمدرستي الحكومية الفقيرة البائسة التي لا يُوجد داخلها إلا كل ما يتنافى مع حقوق الطفل وآدميته..وأن أمتلك مكتبة وفيرة من قصص ومجلات الأطفال...هكذا كانت طموحاتي الطفولية البريئة..ولكنني أفقت على واقع حدد لي سقف طموحاتي وأجبرني على التخلي عنها ،وهو أنني طفلة لأسرة مغتربة في بقعة صحراوية حدودية تقع بين المملكة واليمن..تقع على هامش العالم والحضارة والحياة..بيئة صحراوية جرداء لا تصلح إلا لمواطنيها الأصليين الذين اعتادوا على قساوتها ودرجات حراراتها المرتفعة وافتقارها لأبسط مقومات الحياة الكريمة..اضطرت أسرتي للعيش هناك طيلة اثني عشر عاماً قضيت منهم عامين في مصر بعيداً عن أسرتي وعدت معها مرة أخرى..كنت أتساءل لماذا يتحمل أبي وأمي كل هذا الشقاء؟! لماذا ضحوا بأجمل سنوات شبابهما في هذا المكان الموحش؟! ولماذا بلدنا قاسية على أولادها هكذا وتضطرهم للغربة والشقاء والشتات من أجل لقمة العيش وتوفير حياة أفضل بعد العودة؟!
أسئلة كثيرة كانت تراودني وتقهرني وعرفتني ما معنى الإكتئاب في سن صغيرة !
لم يقف الأمر عند هذا الحد..فحين كبرت تخليت عن الكثير من طموحاتي تباعاً نتيجة لظروف البلد التي تتعمد سحق أحلامنا تحت أقدامها ونتيجة لبعض الإخفاقات الشخصية والصدام المستمر مع مجتمعنا البطريركي العنصري!
ولكني برغم المسيرة النفسية الصعبة تمسكت بالفتات الذي أشعرني بأنني صاحبة إرادة حرة رغماً عن أنف المجتمع ،فهل نحن بالفعل أصحاب إرادة حرة ؟!!
في الصغر تتم برمجة عقولنا تبعاً لتقاليد ونظام الأسرة ،وكل أسرة تختلف عن الأخرى في وضع القوانين الخاصة بها..هناك من يتعصب ويتشدد وهناك من يتساهل بعض الشيء وهناك من لا يهتم..والطفل تابع لأبويه يرث منهما الديانة والعادات والأخلاقيات ويعيش وفقاً لظروفهما من غنى أو فقر ،وحين تنضج شخصيته بعض الشيء تظهر بعض علامات التمرد ومن هنا يتولد الصدام بين الأجيال وهذا طبيعي جداً ،ثم تتم برمجة أخرى في المدرسة من خلال عقلية المعلم التي تملي أيدولوجيتها على عقلية الطالب ،ومن خلال بعض المناهج الموجهة التي تخدم أغراضاً سياسية أو دينية أو طائفية أحياناً أخرى..أذكر أنني في السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الإبتدائية كنت أغني النشيد الوطني السعودي وأحيي العلم السعودي وأقول ( عاش الملك للوطن والعلم ) ،وعندما عدت إلى مصر لأختتم المرحلة الإبتدائية كنت أحيي علم بلدي وأغني ( عاشت بلادنا..عاشت حرة لولادنا ) وربما لو كانت أسرتي قد هاجرت أمريكا مثلاً وقد كان مشروعاً مطروحاً وقتها كنت سأحيي العلم الأمريكي وأغني النشيد الوطني الأمريكي..وتستمر أزمة الإنتماء مع حدة الإغتراب..فأي إرادة حرة نمتلكها ؟!
إننا لسنا أحراراً وهذه إحدى الحقائق المجردة التي استطعت أن أصل إليها ،مهما تصورت أنك حر فأنت مقيد بآلاف الأغلال بدون أن تشعر..حتى عندما تتمدد على الأريكة في كسل أمام شاشة  التلفاز وفي يدك (الريموت) وأمامك كوب النسكافيه لاتكون حراً !! أنت تتصور أنك ستتنقل بين القنوات وتشاهد ما تريد ،في الحقيقة أنت تشاهد ما يريدون هم إملاءه عليك وتعبئة وعيك وعقلك الباطن به وأياً كانت التوجهات فالهدف واحد ،ومهزلة الإعلام ليست عندنا فقط وإنما في معظم دول العالم..الإعلام والتعليم آداتان مهمتان في يد القوى السياسية أو الحزبية أو الطائفية في معظم بلدان العالم.
إذن لا وجود للحرية الحقيقية فهل نحن نعيش تبعاً لما تفرضه الحتمية على قرارتنا..الحتمية باختصار أو الحتمية السببية تحديداً هي قوانين هذا الكون ،القوانين التي تحدد حركة الأجسام المادية داخل الكون والتي إذا اختل أحدها ربما تتهدد حياتنا هنا على الأرض..إذن لكل شيء سبب والقرارات التي نتخذها لها أسباب ومقدرات ونحن نسير حسب أقدارنا..إذن لماذا نُحاسب على أخطائنا ،لماذا يوجد ثواب وعقاب إذا لم نمتلك الإرادة الحرة؟! طالما أن الخطأ له سبب!!
للأسف رغم إختلاف المذاهب الفلسفية في هذا الأمر لم يصلوا لتعريف ثابت للحرية..والحرية في نظري مفهوم هلامي غامض وغير ثابت ،والحرية نسبية حسب معتقدات كل مجتمع.
في فيلم ( أنا حرة ) للبنى عبد العزيز تم تناول مفهوم الحرية بطريقتين مختلفتين لدى بطلة الفيلم وحين حدث لها هذا التحول الذي أشعرها بامتلاك الإرادة الحرة تغير مفهوم الحرية لديها وأصبحت الحرية مسؤولية ورسالة.
لكن أعتقد أن أفلاطون أعطى لنا إسقاطاً قوياً على مفهوم الحرية في محاورته الشهيرة " الكهف" وسأحكي لكم القصة باختصار..
تخيل أفلاطون وجود بعض المساجين داخل كهف مقيدين بالسلاسل منذ طفولتهم ووجوههم لا ترى سوى جدار الكهف ولا يستطيعون لف أعناقهم ليروا ما خلفهم ووراءهم نار مشتعلة وبينهم وبين النار ممر يبدأ من عند مدخل الكهف يمر عليه أناس حقيقيون بأمتعتهم فينعكس خيالهم على الجدار المواجه لوجوه المساجين..فتعود المساجين رؤية ظلال هؤلاء الناس على الجدار ،ظلوا طوال حياتهم لا يروا شيئاً سوى الظلال فتصوروا أن هذه هي الحياة..إلى أن استطاع أحدهم فك قيوده فعانى ألماً شديداً في الوقوف وحين استدار آلمته عيناه من شدة الوهج ،فعينه لم تعتاد رؤية النور ،ثم يأتي أحدهم ويجذبه خارج الكهف ولكن عيناه متعبة ولايستطيع الرؤية بوضوح على الرغم من أن هذا هو العالم الحقيقي الذي ظل محروماً منه لكنه بحاجة إلى التعود ،وعندما يعتاد رؤية العالم الحقيقي يقرر أن يذهب إلي أصحابه المساجين كي يخبرهم بما رأى ،وحين يعود للكهف لايرى شيئا لأنه عائد من النور للظلام وأيضاً لن تعتاد عيناه الأمر بسهولة..وبدلاً من إقناع أصدقائه بالحرية والعالم الحقيقي سيقنعوه هم أنه مريض بعينيه وما رآه بالخارج محض أوهام وربما قتلوه لو تحرروا من قيودهم.
وهذا هو ما نعيشه اليوم نرى الظلال ونؤمن بها ونمارس حريتنا المشوهة حسب بصيرتنا القاصرة..الإنسان الحر في رحلة بحث دائمة عن الحقيقة..لا يسلم عقله لأحد بل يستمع للجميع ويبحث ويقيم وجهات النظر  ثم يخلق شخصيته وأفكاره المنفردة..حرية العقل هي أسمى الحريات..وأسعد اللحظات حين تنكشف حقيقة ما لشخص نافذ البصيرة..شكراً لأفلاطون لأنه هدّأ قليلاً من مهجتي الثائرة وجعلني أخرج من كهفي بعيداً عن الأشباح والظلال.

ندى نصر

13-9-2021

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدهر الجهنمي

ردي على قصيدة (إلهي أبعد الواشين عني) للشاعرة الكبيرة (زاهية بنت البحر)

مُجاراتي لقصيدة (تعالَ) للشاعرة القديرة عطاف سالم..