الوعي محاولة للفهم !

 


إن لغز الوعي يعتبر أحد أعظم الألغاز التي حيَّرت الفكر الإنساني على مرِّ العصور ،وأحد أهم المعضلات الفلسفية والفكرية والعلمية أيضًا التي مازالت تؤرق الكثير .

*في القرن السابع عشر اقترح الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أشهر نظريات الثنائية وتُعرف باسم النظرية الثنائية الديكارتية ،وتقوم على فكرة أن العقل والدماغ يتكونان من مواد مختلفة ،ووفقا لديكارت فإن العقل غير مادي وغير ممتد بمعنى أنه لا يحتل أي حيزًا أو مكانا ،بينما الجسد وباقي العالم المادي يتكون من مادة مادية ممتدة ،إلى هنا تبدو النظرية جيدة ولكن المشكلة ،كيف يتفاعل الجانبان؟!

اقترح ديكارت أنهما يلتقيان في الغدة الصنوبرية الدقيقة في منتصف الدماغ .

لكن الغدة الصنوبرية كيان مادي ،والنظرية لا تقدم تفسيرًا شافيًا عن كيفية تفاعل الغدة وحدها مع العالم العقلي .

وظلت وجهات نظر العلماء والفلاسفة تتضارب بشأن الوعي ما بين المثاليين والماديين والثنائيين والأحاديين .

ولنشرح كل مذهب فلسفي منهم في إيجاز :


*الثنائية في فلسفة العقل :

تشير إلى ثنائية العقل والجسد وإلى وجهة النظر القائلة بأن الظواهر العقلية غير مادية، أو أن العقل والجسد متميزان ومنفصلان. وفكرة الثنائية  تبناها الناس على مر التاريخ ،لأن الكثير من البشر آمنوا بوجود عالمين مختلفين سواء في الميثولوجيات القديمة أو في الديانات التوحيدية الموجودة حتى الآن كثنائية الروح والجسد وثنائية عالم الدنيا وعالم الآخرة.


*الفلسفة الأحادية:

أو فلسفة الفردانية وهو يقول أن للوجود أصل واحد يعود وينتسب إليه ،

في الأفلاطونية الحديثة، كل شيء مشتق من الواحد ،وفي هذا الرأي فإن الواحد فقط هو الأساسي أو السابق على كل شيء آخر من الناحية الوجودية ،لكن أتباع هذا المذهب يختلفون حول هذا الواحد وماهيته وحول الطبيعة الأساسية للعالم وكيفية توحيده .


*الفلسفة المثالية : 

 المعروفة أيضًا باسم المثالية الفلسفية أو المثالية الميتافيزيقية، هي مجموعة من وجهات النظر الميتافيزيقية التي تؤكد أن الواقع يعادل العقل أو الوعي بشكل أساسي ، وأن الواقع هو بناء عقلي بالكامل ،المثاليون يجعلون العقل عنصرًا أساسيًّا ولكن تعذر عليهم تفسير وجود عالم مادي يتسق مع هذا العقل !! .


*الفلسفة المادية: 

وهي الفلسفة الأكثر شهرة بين علماء اليوم ،ويعتقد الماديون أن المادة هي الأساس والجوهر لكل شيء ،ويمكن اعتبارها نوعًا من الفلسفة الأحادية،ولكن عليها أن تجد تفسيرًا لمفهوم الوعي ،كيف يمكن لدماغ مادي مكون من مواد مادية أن يخوض تجارب واعية ذاتية ،لقد توصل العلماء للكثير عن آليات عمل المخ ،لكن أن يتسبب المخ في وجود ما يُسمى بالوعي والإدراك مازال أمرًا مُلغِزًا.


 ويُطلق على تلك المشكلة اسم المشكلة الصعبة للوعي كما أسماها الفيلسوف الأسترالي "ديفيد تشالمرز" عام 1994 ،فقد كان يعقد مقارنةً بين المشكلات السهلة التي نعرف كيف نحلها من حيث المبدأ  حتى وإن لم نكن قد حللناها بعد ،وتضمن هذه المشكلات الإدراك الحسي أو التعلم أو الإنتباه أو الذاكرة ،وكيفية تمييز الأشياء أو الإستجابة للمؤثرات ،كل ذلك مشكلات سهلة على حد قوله إذا ما قُورنت بالمشكلة الصعبة الخاصة بالتجربة نفسها .

وقد كان لتشالمرز تجربة فكرية تُعرف باسم "الزومبي الفلسفي" وهي تجربة فكرية من تجارب فلسفة العقل ،يطلب منا تشالمرز أن نتخيَّل أن أي شخص قد يكون — حقًّا — زومبي؛ وهو شخص يبدو ويتصرَّف من الخارج مثل أي شخص آخر تمامًا، ولكن دون أي خبرة داخلية على الإطلاق. ويزعم أنصار الحجج الفلسفية الخاصة بالزومبي، أنه بما أن الزومبي الفلسفي هو بحكم التعريف متطابق جسديًا مع الشخص الواعي، فإن إمكانيته المنطقية تدحض المادية ،وهذا لأنهم أرادوا إثبات وجود التجربة الواعية كحقيقة أخرى.

 إن تجربة الزومبي الفكرية مثيرةٌ للجدل، ويدَّعي فلاسفةٌ آخرون  أن ما تقترحه هذه التجربة الفكرية مستحيل ميتافيزيقيًّا؛ بمعنى أن أي دماغ بشري يعمل بشكلٍ كاملٍ لا بد أن يكون واعيًا، بطبيعة الحال. لكن تصوُّر «الزومبي» مسألة تستحق التأمُّل ولو من الناحية النظرية فقط؛ لأنها تساعدنا في تحديد السلوكيات التي نعتقد أنها يجب أن تكون مصحوبة بوجودٍ للوعي.

ولهذا اختلف البعض مع "تشالمرز" وقالوا إن لديه مفهوم خاطئ عن الوعي أو إنه يقلل من أهمية المشكلات السهلة ،ومنهم الفيلسوفة الأمريكية "باتريشيا تشيرشلاند"  التي تقول "إننا لا نستطيع أن نقرر سلفًا أي مشكلة سيتضح أنها الأصعب حقًا ،وتقول أن هذه المشكلة تنبع من الحدس الخاطئ بأننا إذا فسرنا الإدراك الحسي والذاكرة والإنتباه وكل التفاصيل الأخرى فسوف يتبقى شئ  هو الوعي نفسه ." وتعني بكلامها أن كل تلك التفاصيل ليست منفصلة عن الوعي.

وحاولت الفيلسوفة "ريبيكا جولدشتاين" أن تحل لغز الوعي المستعصي قائلة " من المؤكَّد أن الوعي مسألةُ مادة --فما عساه يكون غير ذلك، حيث إن ذلك هو ما نحن عليه — ورغم ذلك، فإن الحقيقةَ هي أنَّ بعض كتل المادة لها حياة داخلية لا تشبه أيَّ  خصائصَ أخرى للمادة قد رأيناها حتى الآن، فضلًا عن تلك التي استطعنا تفسيرها. هل يمكن لقوانين حركة المادة أن تنتج «هذا»، كل «هذا»؟ فجأة تستيقظ المادة وتفهم العالَم وتستوعبه؟.

ويبقى هذا أيضًا احتمال أقرب للصواب .

ولكن إذا طبقنا "تجربة الزومبي" على بعض الكائنات الحية مثل  نجم البحر الذي يتجنَّب العقَبات، وهو حيوان مائي لا فقاري ليس لديه جهاز عصبي مركزي ،او اللبلاب المتسلق وغيرها من النباتات التي تعرف كيف تتكيف مع البيئة المحيطة وباستطاعتها توفير الطاقة في ظل الظروف القاسية أحيانًا كي تضمن البقاء ،سنجد أننا نتعامل مع كائنات ذات وعي واضح ،على الرغم من أنه في الماضي كان يُفترض أن تلك الأنظمة الحية بلا وعي ،ولكننا نلاحظ التشابه الواضح بين سلوكياتنا كبشر وبعض سلوكيات تلك الأنظمة الحية ،فماذا لو كانت تلك الكائنات "زومبي" حقًّا ؟! وماذا لو كنا مثلها مثلًا ؟! أليس سؤالٌ يستحق التفكير ؟! .

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدهر الجهنمي

الإلهة المصرية "ماعت"

القطعة الجدارية بركة في الحديقة