Past lives (film)


 

في عام ٢٠٠٠ في سيول بكوريا الجنوبية "نا يونغ" و"هاي سونغ" زميلان في نفس الصف ويبلغان ١٢ عامًا ،تنشأ بينهما مشاعر بريئة كالتي تنشأ بين الفتيان والفتيات في مثل هذا العمر ،ويتعلقان ببعضهما البعض ،ثم تقرر عائلة الفتاة "نا يونغ" الهجرة إلى "تورنتو" ،وغيرت "نا يونغ" اسمها إلى "نورا مون" ،هاجرت الأسرة وانقطع الإتصال بين "ناي يونغ" و"هاي سونغ" ، وحلمت "نورا" بالحصول على جائزة نوبل في الأدب لأنها موهوبة في الكتابة ،وحسب قناعاتها فإن الكوريين لا يحصلون على جائزة نوبل ،واندفعت وراء أحلامها وتركت وراءها قصة الحب الصغيرة التي لم تنضج ،و "هاي سونغ" الذي ظل يتذكرها على مدار ١٢ عشر عامًا ، ويمر الزمن ويلتحق "هاي سونغ" بالتجنيد ،وتهاجر "نورا" من تورنتو إلى نيويورك لتحقيق طموحاتها ،وفي مكالمة مع أمها عن ذكرياتهما في كوريا تتذكر "نورا" "هاي سونغ" وتبحث عنه من خلال "الفيس بوك" لتُفاجأ بأنه قد حاول البحث عنها على إحدى الصفحات قبل عدة أشهر ، من الوارد جدًا أن نتذكر أصدقاء طفولتنا ونحاول البحث عنهم حينما تتفرق بنا السبل ،أذكر أنني حاولت كثيرًا البحث عن إحدى صديقات الطفولة على منصات السوشيال ميديا ولم أعثر عليها حتى الآن وكم آلمني هذا كثيرًا !! يدفعنا الحنين للتقليب في صفحات الماضي علّنا نسترجع شعورًا جميلًا قد عشناه يومًا ،وربما نُصاب بالصدمة حين نجد أن من نبحث عنهم قد زجّوا بنا في ظلمة النسيان .

ونعود إلى أحداث الفيلم الرائعة حيث يتواصل البطلان مرة أخرى عن طريق مكالمات الفيديو ،وتتجدد المشاعر مرة أخرى لتأخذ شكلًا أكثر تعقيدًا ،فكلاهما لديه الرغبة في لقاء الآخر ،هي تريده أن يأتي لزيارتها في نيويورك ،ولكنه يريد أن يذهب إلى الصين ليتعلم اللغة الصينية  ليحقق بها إنجازًا في عمله ،وهو قد أراد أن تزوره في سيول لكنها لم تستطع من أجل عملها ككاتبة مسرحية .

من الصعب أن يتنازل الإنسان العقلاني عن طموحاته الشخصية التي استنزفت سنوات عمره في الدراسة والعمل واكتساب الخبرة من أجل الحب ،وبالأخص في تجربة "نورا" التي هاجرت مرتين من أجل تحقيق أحلامها ،من الصعب جدًا العودة للوطن ولو مجرد زيارة لأنها تعلم أن تلك الزيارة لها عواقب مصيرية على حياتها وبالتالي فهي تُمثل العودة لنقطة الصفر ،بالنسبة لـ "هاي سونغ" فهو يجهل اللغة الإنجليزية ،تربى على التقاليد الكورية الشبيهة بالتقاليد الشرق أوسطية نوعًا ما ،لذا فهو لا يرى نفسه شخصًا ناجحًا في نيويورك وإنما سيعيش في ظلال "نورا" التي تركت وراءها كل شيء من أجل طموحاتها ،وهذا لا يعيبه ولا يعيبها من وجهة نظري ،وخاصةً أن العلاقة لا تتعدى التواصل عن طريق مكالمات الفيديو ،وهذا ليس كافيًا لتكوين فكرة مُتكاملة عن الشخصية التي تتكون عن طريق الإحتكاك المُباشر بالشخص وخوض المواقف المختلفة معه وهذا لا يتأتى عن طريق التواصل عبر المكالمات الصوتية او المرئية أو ما شابه ، عبقرية هذا الفيلم تتمثل في واقعيته الشديدة وعقلانية أبطاله فهو بعيد تمامًا عن الكِليشيه الرومانسي المُعتاد المُتمثِّل في عودة الحبيبة لأحضان حبيبها وتجنيد أحداث الفيلم لأجل تلك النهاية في خط نمطي متكرر كما في الكثير من أفلامنا المصرية على سبيل المثال.

تطلب "نورا" من "هاي سونغ" الإنقطاع لفترة كي تركز أكثر على كتاباتها وعلى حياتها في نيويورك في حالة هروب من المشاعر مجهولة المصير التي لن تسبب إلا مزيدًا من الآلام والضغوط النفسية ،وخوفًا من تغلب عاطفتها عليها في لحظة ضعف واستسلامها لقرار الرحيل إلى سيول ،وعلى الرغم من حالة الإحباط التي انتابت "هاي سونغ" إلا أنه أيد قراراها على مضض .

في تلك الفترة يُسافر "هاي سونغ" إلى الصين ويلتقي بصديقة هناك ،وتذهب "نورا" إلى بيت للفنانين وهناك تلتقي بـ "آرثر" الكاتب الأمريكي ،والذي سرعان ما ينشأ بينهما قصة حب ويتزوجان على إثرها بعد ٣ سنوات. 

وتمر ١٢ عامًا أخرى ،لم تصل فيها "نورا" إلى كل ما كانت تريد ،فهي لم تحصل على الجوائز التي توقعتها ،تعيش في شقة صغير بالإيجار مع زوجها الأمريكي في نيويورك ،لكنها استطاعت الحصول على الإقامة الدائمة في أمريكا .

ويقرر "هاي سونغ" أن يذهب في زيارة قصيرة إلى نيويورك ويقابل "نورا" وجهًا لوجه لأول مرة  بعد ٢٤ عامًا !! 

ومشهد اللقاء انتهج الخط الواقعي للأحداث ،وكأننا نرى لقاء صديقين بعد مدة طويلة من الفراق فلا نرى مبالغة في إظهار مشاعر الحنين أو حميمية في اللقاء ،ويُحسب للفيلم أنه حافظ على واقعيته السحرية كإيقاع هادئ يُناسب تشكيل الشخصيات والأحداث وحتى الموسيقى التصويرية .

ننتقل إلى مرحلة ما بعد اللقاء ،وبروز شخصية "آرثر" الزوج الذي يخشى من انهيار حياته مع زوجته بسبب ظهور صديق الطفولة ،زوجته التي مازالت تتحدث الكورية أثناء نومها وهي تحلم ،هو يعي تمامًا أن ثمة خيطٌ رفيع مازال يربطها بوطنها ،وأن "هاي سونغ" هو ذاك الخيط وعلى الرغم من ضعفه الشديد مازال قادرًا على اجتذابها مرةً أخرى .

"آرثر" هنا هو الزوج المثالي (الجنتل مان) الذي يتحدث مع زوجته عن مخاوفه تلك بنظراتٍ قلقة لأنه ببساطة يحبها ويريد الحفاظ على حياته معها ،وبالرغم من سخريتها من مخاوفه لأنها أقنعته بأن "هاي سونغ" مجرد صديق قديم لا أكثر ،إلا أن موقف "آرثر" شديد الصعوبة والقسوة ،وأعتقد أن شخصيته قد شذّت قليلًا عن الإيقاع الواقعي للفيلم لأنها مثالية بشكل يصعب تصديقه ! وستتعاطف معه أكثر في المشهد الذي جمع ثلاثتهم ،حين يندمج كل من "هاي سونغ" و "نورا" في الحديث بالكورية وهو ينظر إليهما ولا يفقه حديثهما . 

"آرثر" نموذج مختلف تمامًا للشخصية الأمريكية التي عرفناها في الكثير من أفلامهم ،حتى نيويورك نفسها لن تراها كما تعودت أن تراها في الكثير من الأفلام الأمريكية مزدحمة وصاخبة وتعج بالمُطارادات ورجال العصابات ،ستراها هادئة وحالمة كأحداث الفيلم تمامًا.

"نورا" وجدت مع "آرثر" حياة الإستقرار ،والإستقرار العاطفي والنفسي عاملٌ مهم لاستمرارية الحياة والإبداع ،فالحب الهادئ المستقر يمنحنا الدفء والأمان والقدرة على مواصلة الحياة ،أما الحب الشائك المُعقد الذي يتجلى كأسطورة من أساطير الآلهة القدامى فمكانه الخيال فقط لأنه عاجز عن اشباع قدرتنا على الإستمرار بل ويصير قيدًا يمنعنا من أن نعيش الحياة بشكلٍ أفضل ، و"نورا" تلك الشخصية العقلانية لن تضحي باستقرار حياتها لأجل ذاك الحب الأسطوري مجهول المصير .

تنتهي الزيارة سريعًا ويتفق الإثنان على أن ما جرى بينهما من أحداث هو بفعل الـ ( إن - يون) وهي كلمة بالكورية تعني التناسخ ،أي أنهما كانا على اتصال في حيواتهم السابقة ،ومن تلك الفكرة جاء اسم الفيلم Past lives .

يرحل "هاي سونغ" وتعود "نورا" باكية لأحضان زوجها .

الفيلم في النهاية هو حالة مُعقدة من النوستالجيا للوطن ،للطفولة ،للحبيب الأول ،للأحلام الأولى ،لكنها ستبقى في حيز الحنين ،ولن تخرج أبدًا إلى الواقع .


*ملحوظة

الفيلم من الأفلام المسيلة للدموع. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدهر الجهنمي

ردي على قصيدة (إلهي أبعد الواشين عني) للشاعرة الكبيرة (زاهية بنت البحر)

مُجاراتي لقصيدة (تعالَ) للشاعرة القديرة عطاف سالم..