فيلم Kidnapped


 

شاهدت هذا الفيلم منذ مدة قريبة ،وهو من نوعية الأفلام القليلة التي يصعب تجاوزها من دون أن تملأ رأسك بالتساؤلات والتأملات ،كيف لو كنت عايشت هذه القصة ؟! كيف لوكنت أحد أطرافها ؟! خاصة وأن الفيلم مأخوذ من قصة حقيقية ،كيف لو كانت شاءت الصدفة أن تعيش هذه الفترة المظلمة من تاريخ البشرية ،وإن لم تكن البشرية قد تخلصت تمامًا الآن من تبعاتها ،وعلى ما يبدو أن أمامنا الكثير كي نتعلم أن الدين الذي تعتنقه ليس سوى صدفة عبثية من صدف هذا الكون وليس اختيارًا خاصًا بك ،وليس قناعة عقلية وصلت لها بعد الجهد والبحث ،وإنما فرضته عليك البيئة والعائلة والمجتمع ،فصرت تنتمي له وتتعصب له بل وربما تقتل وتزهق الأنفس من أجله ،وتستبيح أوطان الغير وتنهب خيراتهم من أجله وتفرضه عليهم قهرًا وعدوانًا..من أجل تلك الصدفة العبثية البحتة !! فالدين الذي اخترعته البشرية في فجر وعيها كي تتقي من خلاله ما تجهل عن طريق الطقوس والصلوات أو لأجل الوصول للرضا والسلام النفسي في حياة مرعبة مليئة بالشر والتعاسة والظلم قد صار سلاحًا يخدم السلطة ويُدجِّن البشر ،وصار محورًا من محاور الشرعلى مدار التاريخ ،حتى وإن تظاهر بعكس ذلك .

في منتصف القرن التاسع عشر في "بولونيا" بإيطاليا عاشت عائلة "مورتارا" اليهودية وكان طفلهم السادس الذي يُدعى "إدجاردو" قد عمدته سرًا خادمة العائلة وهي فتاة مراهقة كاثوليكية وعمره 6 أشهر لأنه أصيب بالحمى وكان على وشك الموت ،ولأن الفتاة تعلقت بالطفل أشفقت أن يموت دون تعميد فيذهب إلى "الليمبو" وهو مكان حسب المعتقد المسيحي الكاثوليكي يقع بين الجنة والجحيم يعلق فيه الأطفال الذين يموتون قبل تعميدهم فيحرمون من النعيم الإلهي ولكن لا يعانون ولا يُعذبون ،كانت "بولونيا" آنذاك تابعة للدولة البابوية التي كانت تحت حكم البابا "بيوس التاسع" ،بعد مرور عدة سنوات أبلغت الخادمة السلطات أنها قد عمدت الطفل وأنه الآن كاثوليكي ويعيش مع عائلته اليهودية وهذا ما لا تسمح به قوانين دولة البابا ،مما دفع السلطات بأوامر من الأب "بيير فيليتي"بأخذ الطفل قسرًا من حضن والديه ـ وكان قد بلغ 6 سنوات ـ وترحيله إلى روما ،وبرغم توسلات الوالدين رفض البابا عودة الإبن لهما واشترط عليهما الدخول في الكاثوليكية هما وإخوته مقابل لم شملهما بالطفل ،ليكبر الطفل في حضن الكنيسة ويصير كاهنًا ولاؤه للكنيسة والبابا. 

قضية "مورتارا" (بالإيطالية Caso Mortara) جذبت انتباه معظم أوروبا وأمريكا الشمالية في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر وساهمت في إشعال الغضب المحلي والدولي ضد تصرفات الدولة البابوية مما أدى إلى سقوطها واعتماد العلمانية ،خاصةً أن تلك القضية تزامنت مع حركة توحيد إيطاليا التي كانت حدثًا سياسيًّا واجتماعيًا هامًا يهدف إلى توحيد مختلف ولايات شبه الجزيرة الإيطالية في دولة واحدة مما يهدد كرسي البابوية.

رفضت عائلة "مورتارا" التحول إلى الكاثوليكية ،واختارت الطريق الأصعب وهو أن يحاربوا الكنيسة والدولة من خلال القانون وتحريك الرأي العام بالرغم من هشاشة الأمل في قانون خاضع للسلطة الدينية ! ففي النهاية قضت المحكمة بالإفراج عن الأب "فيليتي" وإعادته لمنصبه ،فلم تكن القضية سوى محاولة لكسر أنف السلطة البابوية مع استمرار الوضع كما هو عليه!

تمر ستة عشر عامًا والوالدان يتشبثان بأمل عودة ابنهما لهما...ولكن هل أراد "إدجاردو" فعلًا العودة لوالديه؟! هذه هي المعضلة الأساسية للفيلم !!

"إدجاردو" لاقى معاملةً حسنة في الكنيسة ،وأصبحت له حياة روتينية اعتادها كل يوم وتآلف معها ،وصار له أقران من سنه ومن خلفية يهودية مثله ،وكطفل في السادسة لم تكن لديه القدرة على الجدال والمناقشة حينما قيل له أنه سيتعلم اللاتينية لكي يتلو بها الصلوات وليس بحاجة للغة العبرية ،وأن يقف أمام هيكل الرب ليشارك في الحياة الأبدية مع المسيح ويرفض الكفر اليهودي والخرافات اليهودية ،هذا الطفل الذي لم يكن له خيار في ديانته الأولى التي ورثها عن أبويه وليس له خيار في الديانة الجديدة التي تُفرض عليه..كيف يكون لهذا الطفل شخصية سوية لها القدرة على التمييز والإختيار في المستقبل ؟! الفيلم يضعنا أمام شخصية هشة مهزوزة الثقة لا تملك حق تقرير المصير . في بداية الفيلم يختبئ "إدجاردو" تحت ثياب أمه من رجال الشرطة كي لا يأخذوه ،ثم بعد ذلك في الكنيسة يلعب "استغماية" مع أقرانه ليختبئ منهم بنفس الطريقة تحت ثياب البابا في رسالة واضحة أن الكنيسة صارت الأم والعائلة والحاضنة ،"إدجاردو" الطفل الذي كان يتلو الشيما "صلاة يهودية" قبل نومه تحت الأغطية كما أوصاه أبواه مخافة أن يسمعه أحد هو نفسه "إدجاردو" الشاب الذي شد غطاء السرير على وجهه وهو يبكي عندما دخلا أبواه إلى مكان نومه هربًا من مواجهتهما ،فما كان منهما إلا أن رحلا في يأسٍ وخذلان ،في مشهدٍ آخر يعتبر من أهم مشاهد الفيلم نرى "إدجاردو" الطفل ذو الخلفية اليهودية يشفق على المسيح المصلوب ،فقرر مدفوعًا ببراءته أن ينزع مسامير الصلب عن التمثال ويتخيل أنه قد حرره من الصلب فيخلع المسيح إكليل الشوك أمامه ويرحل في مشهد رائع يحتمل العديد من التأويلات!!

من الطبيعي حين يكبر الطفل أن يرفض العودة لعائلته رغم إتاحة الفرصة لاسترجاعه مع فوضى حركة المتمردين التي انضم لها أخوه الأكبر الذي تخلى عن المعتقدات الدينية تمامًا ،ومع ذلك يعلن "إدجاردو" ولاءه وخضوعه التام للكنيسة برغم الحنين الذي يراوده لعائلته.

وعلى الرغم من عدم تمرد "إدجاردو" الطفل على وضعه الجديد ،لم يكن ذلك شيئًا حميدًا بالنسبة للجالية اليهودية التي مارست الضغط على الأب كي يحث ابنه أثناء زيارته له على التمرد والسخط ورفض الطعام ،إلا أن موقف الأب كان في غاية النبل والحكمة فلم يشأ أن يضغط على ابنه حرصًا على سلامته النفسية ،وأيضًا كي لا يُحرم من رؤيته .

الإستبداد الكنسي في الفيلم هو رمز للإستبداد الديني في كل زمانٍ ومكان بغض النظر عن الدين صاحب السلطة الذي يسعى لسحق المعتقدات الأخرى المخالفة له والتنكيل بها والتضييق عليها ،والتسلط على الناس من خلال رجال الدين "الكهنوت" الذين يظنون أنهم وسطاء بين الآلهة والبشر ،وجمع الثروات عن طريق استلاب عقول البسطاء .

هنا أتساءل كما أن السلطة الدينية الفاشية كانت سببًا في انفصال الطفل عن أبويه ،أليس دين الأبوين أيضًا كان عائقًا أمام التئام الشمل؟! صحيح أن تلبية رغبة البابا في دخولهم الكاثوليكية كشرط لاسترداد طفلهم يُعتبر رضوخًا واستسلامًا لسلطة فاشية تقمع الأقليات..إلا أن الروابط الإنسانية في نظري أقوى وأهم من الدين ،وطالما أن هذا هو الحل الوحيد ألم يكن من الأجدى تضحية الوالدين بدينهما ـ حتى ولو بشكل صوري ـ من أجل البقاء مع طفلهما؟! ،هناك أيضًا تساؤلٌ آخرـ أعتبره تجديفًا مني ـ هل محاولات الأهل المضنية لاستعادة الطفل بعد تأقلمه وانسجامه مع بيئته الجديدة من الممكن أن نعتبرها هي أيًضا محاولة اختطاف؟! ،وأعتقد أن هذه هي الرسالة الفلسفية للفيلم ،فالطفل في الحالتين مُختطف!

في النهاية أستطيع القول أن الطفل يأتي إلى هذه الحياة لا يملك اختيارًا أو إرادة فعلية ،لا يختار أبويه ولا إخوته ولا اسمه ولا موطنه ولا حتى دينه الذي إما أن يرثه عن أبويه أو يُفرض عليه من خلال سلطة فاشية أو احتلال قمعي أو ما شابه..ومن يقرأ في التاريخ يعلم جيدًا كيف فُرضت الأديان على البشر ؟! أليس من حق الأطفال أن يعيشوا طفولتهم بعيدًا عن عبء الدين..بعيدًا عن الأفكار الإقصائية المتطرفة..بعيدًا عن الفاشية والعنصرية والرجعية ثم بعد ذلك تُترك لهم حرية الإختيار..أليس هذا أفضل لمستقبل البشرية ولضمان جودة الحياة على هذا الكوكب التعيس؟!

يا بني كن انسانًا ثم اعتنق دينًا أولا تعتنق...لا يُهم !!





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدهر الجهنمي

الإلهة المصرية "ماعت"

القطعة الجدارية بركة في الحديقة