رحلة في كتاب (الأسطورة توثيق حضاري)..



يتناول كتاب (الأسطورة توثيق حضاري) مفهوم الأسطورة حيث يؤكد على أن الأسطورة تعود إلى أزمان ما قبل معرفة الكتابة وقد دلّ على ذلك التنقيب والإكتشافات في بلاد الشام والعراق ومصر..أما متى بدأ عصر الكتابة فلا يُعرف بالتحديد حتى الآن ولكن يُقال في التراث أنّ "أنوش هو أول من خدش الخدوش" وهو من سلالة سيدنا آدم (عليه السلام) وقد اهتدى للنقش على الطين من خلال آثار أقدامه على الأرض..
وأيضاً يتناول مفهوم الأسطورة لُغويّاً في اللغة العربيّة والإنجليزيّة..وملاحظة التشابه بين كلمة (الأسطورة) العربية وكلمة (History) الإنجليزية المُقتبسة في الأصل من الكلمة اليونانية "استوريا" "Historia" بمعنى حكاية أو قصة ،فالكلمة عربية الأصل وهي من الفعل الثلاثي (سَطَرَ)...
ومن التعريفات الكثيرة التي قدمها الكتاب للأسطورة استخلصت منها أن الأسطورة "قصة مقدسة حدثت بالفعل في بدايات العهود الأولى للإنسان وصاغها الأولّون طبقاً لمعتقداتهم وظروفهم ودوافعهم الدينية والأخلاقية والإجتماعية..وأنها ركنٌ مهم من أركان المعرفة الإنسانية وحضارتها"
،ومن الأقوال التي استوقفتني قول الميثولوجي الأمريكي جوزيف كامبل"على الفرد أن يخلق نوعاً من الأسطورة التي لها صلة وثيقة مع حياته الخاصة".
ويتعرّض الكتاب لما قد أيقنه كهنة وأحبار اليهود من التأثير الكبير للأسطورة على عقول الناس لذا فقد دعّموا وجود كيانهم اللاشرعيّ في أرض فلسطين بشعارات زائفة ذات نزعة أسطوريّة كـ "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد" و" هيكل سليمان و"نجمة داوود" وغيرها...
وهناك أربع نظريات حول نشأة الأساطير :
أولاً :النظرية الدينية والتي تعتقد أن الأساطير ما هي إلا حكايات مأخوذة في الأصل من التوراة وتمّ تحريفُها.
ثانياً: النظرية التاريخية والتي ترى أن أبطال الأساطير هم أشخاصٌ حقيقيون..ولكن خيال الناس أضفى عليهم الصفة الأسطورية بمرور الزمن.
ثالثاً :النظرية الرمزية والتي تؤكِّد على أن الأساطير مجرد مجازات لم يُفهم ما وراءها من معاني.
رايعاً: النظرية الطبيعيّة التي تقول بأن شخوص الأساطير تم تخيلهم بناءً على العناصر الكونية الماء والنار والهواء وكل ظواهر الكون الأخرى.
ثم يُقدم الكتاب مجموعة من الأساطير منها:

- أسطورة إيتانا والنسر البابلية والتي توضح خلق وتنصيب سيدنا آدم عليه السلام - المُسمى لديهم "إيتانا" أو "إنليل" - ملكاً وخليفة للبشر حيث أسكنوه الجبل العظيم (الجنة)..ثم تأتي قصة النسر والحية (العقل والنفس) التي توضح الخطيئة التي استوجبت خروج آدم من الجنة..

-أسطورة جلجامش السومريّة..وجلجامش واحد من الملوك الذين حكموا مدينة أورك الواقعة على نهر الفرات..واسمه (جل-جامس) أي الثور الجليل..فقد تخيلوه آدميّاً ذي أوصاف خرافية..فقد كان طاغياً شهوانياً يتعالى على رعيته وينتهك حرماتهم..إلى أن بعثت القوى الإلهية نقيضه (أنقيضو/ أنكيدو) ليصارعه..وبعد طول صراع  يتغير فكر جلجامش ويصبح صديقاً لأنكيدو ويتفقان على المغامرة للوصول لأرض الخلود..وفي طريقهما يظهر (خمبابا) ليلقى مصرعه على أيديهما..ثم يموت أنكيدو..فيحاول جلجامش قهر الموت والوصول لأرض الخلود..لكنه يفشل في النهاية..

 
- أسطورة قدموس وأخته أوروبا (عروبا)..وهما شخصيتان عربيتان حقيقيتان..فقدموس هو ملك مدينة صور العربية اللبنانية وهو الذي علم اليونانيين الزراعة والتعدين والهجاء..وأخته أوروبا (عروبا) هي التي أعطت للقارة الأروبية اسمها..ولكن الحكاية صيغت بأسلوب خرافيّ أيضاً كسائر الأساطير العربية..وتحكي الأسطورة عن (أوروبا) الأميرة العربية التي سكنت مدينة صور واختطفها ثورٌ هائل ونقلها على ظهره للضفة الشمالية من البحر..إلى أن يذهب أخوها قدموس للبحث عنها والإنتقام ممن خطفها فيواجه في طريقه الكثير من المصاعب حتى يقابل الإلهة أثينا التي تقوده إلى استخلاص عدد من الجنود وإقامة مدينة قادميا القلعة المكتشفة في بلاد اليونان.

والأساطير هنا تبين لنا الحد الفاصل بين الأسطورة والخرافة..أي أن الأسطورة ذات مرجعية تاريخية حقيقية ولكن خيال الإنسانية صاغها في القالب الخرافيّ كي تجري على السنة الناس وتعيش في وجدانهم..وتناولت الأساطير الكثير من القضايا وأبرزها قضية الخلق ونشأة الكون..وكيف أن الأولين استطاعوا بفكرهم البسيط الإهتداء إلى بداية الكون حيث انفتاق السماء عن الأرض..وعن خلق القمر ومنازله وكيف أنه يستمد ضوءه من الشمس..وهذا ما يجعلنا نفخر بحضاراتنا العربية القديمة ( الفرعونية والسومريّة والبابلية والفينيقية والآشورية) فقد قدموا لنا الكثير عن قصة خلق آدم وبداية الكون و العالم السفلي والثواب والعقاب وقصص الأنبياء وغيرها...أي أن لهم الفضل الأول والأخير على الحضارات الغربية الحديثة العهد..فأين نحن الآن منهم ؟!!

- أما عن الأساطير في القرآن الكريم..فقد ورد لفظ الأساطير تسع مرات في القرآن ولم ترد وحدها بل مُضافة إلى الأولين "أساطير الأولين"..فلماذا كان الكفار يعاندون آيات الله ويصفونها بأساطير الأولين؟..ذلك لأنهم وجدوا تشابهاً كبيراً بين آيات الله وبين أساطير حضارات المنطقة القديمة والتي تناولت دعوة التوحيد وخلق الكون وقصص الأنبياء كما ورد سابقاً..وكأنهم يقولون لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)  قد سمعنا بهذا من قبل فما أنت إلا مُدّعٍ للنبوّة..ويقول الله عزّوجل في سورة الأنفال "
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ" (31)
 إذن فهذا إعتراف وإقرار من المشركين بأن التوحيد والبعث والحساب كل هذا كان موجوداً في أساطير الأولين..ولكن الترجمات الغربية صوّرت لنا تلك الأساطير على أنها خرافات دعت لتعدد الآلهة والأرباب..وهذا لأن النص الأصلي للأساطير كُتب بإحدى اللهجات العربية بحروفها الإثنين والعشرين (أبجد،هوّز،حطّي،كلمن،سعفص،قرشت)..والكتاب يؤكد على وجود خلل واضح في الترجمات الغربية وذلك للتعارض بين اللغتين العربية والإنجليزية ،ولأن الترجمة لا تعطي تلك الروح القوية الموجودة في النصوص العربية..للأسف قد عرفنا الكثير من تراثنا عن طريق الترجمات الغربية له..!!
والفصل الأخير من الكتاب يتعرض لفضل اللغة العربية على سائر اللغات..وأنها ستبقى دائماً وأبداً اللغة الأم سر الحضارات ونبع التطور الذي لا ينضب...

كان هذا مجرد ملّخص وجيز لأهم أفكار هذا الكتاب الشيق والذي لا يُغني عن قراءتهِ طبعاً..

ندى
13.10.2014
 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدهر الجهنمي

ردي على قصيدة (إلهي أبعد الواشين عني) للشاعرة الكبيرة (زاهية بنت البحر)

مُجاراتي لقصيدة (تعالَ) للشاعرة القديرة عطاف سالم..